فصل: تفسير الآية رقم (61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏58 - 59‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏

يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى، عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس، كما نص على ذلك السدي، والرّبيع بن أنس، وقتادة، ‏[‏وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ الآيات ‏[‏المائدة‏:‏ 21-24‏]‏

وقال آخرون‏:‏ هي أريحا ‏[‏ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد‏]‏ وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا ‏[‏وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر، حكاه فخر الدين في تفسيره، والصحيح هو الأول؛ لأنها بيت المقدس‏]‏‏.‏ وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون، عليه السلام، وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد- ‏{‏سُجَّدًا‏}‏ أي‏:‏ شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، وردّ بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال‏.‏

قال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ أي ركعا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ قال‏:‏ ركعا من باب صغير‏.‏

رواه الحاكم من حديث سفيان، به‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان، وهو الثوري، به‏.‏ وزاد‏:‏ فدخلوا من قبل أستاههم‏.‏

‏[‏وقال الحسن البصري‏:‏ أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي، وحكى عن بعضهم‏:‏ أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته‏]‏‏.‏

وقال خصيف‏:‏ قال عكرمة، قال ابن عباس‏:‏ كان الباب قبل القبلة‏.‏

وقال ‏[‏ابن عباس و‏]‏ مجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك‏:‏ هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، ‏[‏وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية‏]‏‏.‏

وقال خَصِيف‏:‏ قال عكرمة‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ فدخلوا على شق، وقال السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنُود، عن عبد الله بن مسعود‏:‏ وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي‏:‏ رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ قال الثوري عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ مغفرة، استغفروا‏.‏ وروي عن عطاء، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ هذا الأمر حق، كما قيل لكم‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ قولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ فكتب إليه‏:‏ أن أقروا بالذنب‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ أي احطط عنا خطايانا‏.‏

‏{‏نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ هذا جواب الأمر، أي‏:‏ إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات‏.‏

وحاصل الأمر‏:‏ أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏ فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر ‏[‏بن الخطاب‏]‏ رضي الله عنه‏.‏ ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك، ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح -فتح مكة- داخلا إليها من الثنية العليا، وإنَّه الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله، يشكر الله على ذلك‏.‏ ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى، فقال بعضهم‏:‏ هذه صلاة الضحى، وقال آخرون‏:‏ بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم؛ وقيل‏:‏ يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثني محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قيل لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا‏:‏ حطة‏:‏ حبة في شعرة‏"‏‏.‏

ورواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِطَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ فبدلوا‏.‏ فقالوا‏:‏ حبة‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معمر، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ‏}‏ فبدلوا، ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، فقالوا‏:‏ حبة في شعرة‏"‏‏.‏

وهذا حديث صحيح، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر، ومسلم عن محمد بن رافع‏.‏ والترمذي عن عبد بن حميد، كلهم عن عبد الرزاق، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا- يزحفون على أستاههم، وهم يقولون‏:‏ حنطة في شعيرة‏"‏‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا أحمد بن صالح، وحدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ‏}‏ ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، مثله‏.‏ هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القَزّاز، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل، أجَزْنا في ثنية يقال لها‏:‏ ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ‏}‏‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏ قال اليهود‏:‏ قيل لهم‏:‏ ادخلوا الباب سجدًا، قال‏:‏ ركعًا، وقولوا‏:‏ حطة‏:‏ أي مغفرة، فدخلوا على أستاههم، وجعلوا يقولون‏:‏ حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏‏.‏

وقال الثوري، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكَنود، عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا حِطَّةٌ‏}‏ فقالوا‏:‏ حنطة حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ وقال أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ ‏"‏هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا‏"‏ فهي بالعربية‏:‏ حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ وقال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ ركعًا من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا‏:‏ حنطة، فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ‏}‏ وهكذا روي عن عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن رافع‏.‏

وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجدًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا‏:‏ حطة، أي‏:‏ احطط عنا ذنوبنا، فاستهزؤوا فقالوا‏:‏ حنطة في شعرة‏.‏ وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم، وهو خروجهم عن طاعته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ كل شيء في كتاب الله من ‏"‏الرِّجْز‏"‏ يعني به العذاب‏.‏

وهكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، والحسن، وقتادة، أنه العذاب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ الرجز الغضب‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ الرجز‏:‏ إما الطاعون، وإما البرد‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الطاعون‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد -يعني ابن أبي وقاص- عن سعد بن مالك، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت، رضي الله عنهم، قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الطاعون رجْز عذاب عُذِّب به من كان قبلكم‏"‏‏.‏ وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به‏.‏ وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت‏:‏ ‏"‏إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها‏"‏ الحديث‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ أخبرني يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال‏:‏ أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم‏"‏‏.‏ وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين، من حديث الزهري، ومن حديث مالك، عن محمد بن المُنكَدِر، وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد، بنحوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى، عليه السلام، حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك‏.‏ ‏{‏وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏ ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها‏.‏ وقد بسطه المفسرون في كلامهم، كما قال ابن عباس‏:‏ وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى، عليه السلام، فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم، يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول‏.‏

وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وهو حديث الفتون الطويل‏.‏

وقال عطية العوفي‏:‏ وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فإذا ساروا حملوه على ثور، فاستمسك الماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏

وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه‏:‏ كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان حجرًا طوريًا، من الطور، يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه‏.‏

‏[‏وقال الزمخشري‏:‏ وقيل‏:‏ كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع، وقيل‏:‏ مثل رأس الإنسان، وقيل‏:‏ كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى‏.‏ وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار، قال‏:‏ وقيل‏:‏ أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا، وقيل‏:‏ هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل‏:‏ ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه، قال‏:‏ وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس، فقالوا‏:‏ إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون‏]‏‏.‏

وقال يحيى بن النضر‏:‏ قلت لجويبر‏:‏ كيف علم كل أناس مشربهم‏؟‏ قال‏:‏ كان موسى يضع الحجر، ويقوم من كل سبط رجل، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فينضح من كل عين على رجل، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه اثنتا عشرة عينًا من ماء، لكل سِبْط منهم عين يشربون منها‏.‏

وقال مجاهد نحو قول ابن عباس‏.‏

وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم عما فعل بهم‏.‏ وأما في هذه السورة، وهي البقرة فهي مدنية؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم‏.‏ وأخبر هناك بقوله‏:‏ ‏{‏فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏ وهو أول الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا، وذاك هناك، والله أعلم‏.‏

وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى، طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم‏.‏ وقال الحسن البصري رحمه الله‏:‏ فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا‏}‏ ‏[‏وهم يأكلون المن والسلوى، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد‏]‏‏.‏ فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة‏.‏ وأما ‏"‏الفوم‏"‏ فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود ‏"‏وثومها‏"‏ بالثاء، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم، عنه، بالثوم‏.‏ وكذا الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري، عن يونس، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ الثوم‏.‏

قالوا‏:‏ وفي اللغة القديمة‏:‏ فَوِّمُوا لنا بمعنى‏:‏ اختبزوا‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ فإن كان ذلك صحيحًا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم‏:‏ وقعوا في ‏"‏عاثُور شَرّ، وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير‏"‏‏.‏ وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة، حدثني نافع بن أبي نعيم‏:‏ أن ابن عباس سئِل عن قول الله‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ ما فومها‏؟‏ قال‏:‏ الحنطة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول‏:‏

قد كنتُ أغنى الناس شخصًا واحدًا *** وَرَدَ المدينة عن زرَاعة فُوم

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجرمي، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كُرَيْب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ قال‏:‏ الفوم الحنطة بلسان بني هاشم‏.‏ وكذا قال علي بن أبي طلحة، والضحاك وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم‏:‏ الحنطة‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد وعطاء‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ قالا وخبزها‏.‏

وقال هُشَيْم عن يونس، عن الحسن، وحصين، عن أبي مالك‏:‏ ‏{‏وَفُومِهَا‏}‏ قال‏:‏ الحنطة‏.‏

وهو قول عكرمة، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، والله أعلم‏.‏

‏[‏وقال الجوهري‏:‏ الفوم‏:‏ الحنطة‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ الفوم‏:‏ السنبلة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز‏.‏ قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ هو الحمص لغة شامية، ومنه يقال لبائعه‏:‏ فامي مغير عن فومي‏]‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ الحبوب التي تؤكل كلها فوم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ‏}‏ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ولا أستجيز القراءة بغير ذلك؛ لإجماع المصاحف على ذلك‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏اهْبِطُوا مِصْرًا‏}‏ قال‏:‏ مصرًا من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان، عن عكرمة، عنه‏.‏

قال‏:‏ وروي عن السدي، وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود‏:‏ ‏"‏اهبطوا مصر‏"‏ من غير إجراء يعني من غير صرف‏.‏ ثم روى عن أبي العالية، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون‏.‏ وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية، وعن الأعمش أيضًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا‏.‏ ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ ثم توقف في المراد ما هو‏؟‏ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار‏؟‏

وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك لأن موسى، عليه السلام يقول لهم‏:‏ هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه، لم يجابوا إليه، والله أعلم

‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏ أي‏:‏ وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا، أي‏:‏ لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون‏.‏

قال الضحاك عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ‏}‏ قال‏:‏ هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ‏}‏ قال‏:‏ يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ‏}‏ قال‏:‏ الذل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين‏.‏ ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية‏.‏

وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي‏:‏ المسكنة الفاقة‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ الخراج‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الجزية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس‏:‏ فحدَثَ عليهم غضب من الله‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ يقول‏:‏ استوجبوا سخطًا، وقال ابن جرير‏:‏ يعني بقوله‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ انصرفوا ورجعوا، ولا يقال‏:‏ باؤوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال منه‏:‏ باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 29‏]‏ يعني‏:‏ تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني‏.‏ فمعنى الكلام إذًا‏:‏ فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كبْر أعظم من هذا، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الكبر بَطَر الحق، وغَمْط الناس‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ كنت لا أحجب عن النَّجْوى، ولا عن كذا ولا عن كذا قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه، وهو يقول‏:‏ يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي مَنْ بطر -أو قال‏:‏ سفه الحق- وغَمط الناس‏"‏‏.‏ يعني‏:‏ رد الحق وانتقاص الناس، والازدراء بهم والتعاظم عليهم‏.‏ ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا‏.‏

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله -يعني ابن مسعود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏ وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به، أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به‏.‏ والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏

لما بين ‏[‏الله‏]‏ تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدني، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال‏:‏ قال سلمان‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا‏}‏ الآية‏:‏ نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال‏:‏ كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا سلمان، هم من أهل النار‏"‏‏.‏ فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود‏:‏ أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، عليه السلام؛ حتى جاء عيسى‏.‏ فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكًا‏.‏ وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل -كان هالكا‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الآية فأنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فإن هذا الذي قاله ‏[‏ابن عباس‏]‏ إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه ‏[‏الله‏]‏ بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم‏.‏

واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى، عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ أي‏:‏ تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض‏.‏

‏[‏وقيل‏:‏ لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ لأنهم يتهودون، أي‏:‏ يتحركون عند قراءة التوراة‏]‏‏.‏

فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم‏:‏ أنصار أيضًا، كما قال عيسى، عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ وقيل‏:‏ إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جُرَيج، وروي عن ابن عباس أيضًا، والله أعلم‏.‏

والنصارى‏:‏ جمع نصران كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة‏:‏ نصرانة، قال الشاعر‏:‏

نصرانة لم تَحَنَّفِ ***

فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر‏.‏ وهؤلاء هم المؤمنون ‏[‏حقا‏]‏‏.‏ وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية‏.‏ وأما الصابئون فقد اختلف فيهم؛ فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال‏:‏ الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين‏.‏ وكذا رواه ابن أبي نجيح، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك‏.‏

وقال أبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك ‏[‏وإسحاق بن راهويه‏]‏ الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور‏.‏ ‏[‏ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق‏:‏ لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم‏]‏‏.‏

وقال هشيم عن مطرف‏:‏ كنا عند الحكم بن عتيبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين‏:‏ إنهم كالمجوس، فقال الحكم‏:‏ ألم أخبركم بذلك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن عبد الكريم‏:‏ سمعت الحسن ذكر الصابئين، فقال‏:‏ هم قوم يعبدون الملائكة‏.‏

‏[‏وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن الحسن قال‏:‏ أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس‏.‏ قال‏:‏ فأراد أن يضع عنهم الجزية‏.‏ قال‏:‏ فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة‏]‏‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي‏:‏ بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون إلى القبلة‏.‏ وكذا قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال‏:‏ الصابئون قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات‏.‏

وسئل وهب بن منبه عن الصابئين، فقال‏:‏ الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ قال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون‏:‏ لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول‏:‏ لا إله إلا الله، قال‏:‏ ولم يؤمنوا برسول، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏:‏ هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم، يعني في قول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقال الخليل هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح، عليه السلام‏.‏ وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح‏:‏ أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم، قال ابن عباس‏:‏ ولا تنكح نساؤهم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنهم فاعلة؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال‏:‏ وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل، عليه السلام، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم‏.‏

وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه‏:‏ أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي، أي‏:‏ أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏

يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏ الطور هو الجبل، كما فسره بآية الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس، ومجاهد، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس، وغير واحد، وهذا ظاهر‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور‏.‏

وفي حديث الفتون‏:‏ عن ابن عباس‏:‏ أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا ‏[‏فسجدوا‏]‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدًا ‏[‏فسجدوا‏]‏ على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏}‏‏.‏ وقال الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ يعني التوراة‏.‏

وقال أبو العالية، والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ أي بطاعة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بقوة‏:‏ بعمل بما فيه‏.‏ وقال قتادة ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ‏}‏ القوة‏:‏ الجد وإلا قذفته عليكم‏.‏

قال‏:‏ فأقروا بذلك‏:‏ أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ وإلا قذفته عليكم، أي أسقطه عليكم، يعني الجبل‏.‏

وقال أبو العالية والربيع‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه ‏{‏فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ أي‏:‏ توبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم ‏{‏لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 66‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ‏}‏ يا معشر اليهود، ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت‏.‏ فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة‏.‏ فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم‏.‏ وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ القصة بكمالها‏.‏ وقال السدي‏:‏ أهل هذه القرية هم أهل ‏"‏أيلة‏"‏‏.‏ وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ قال‏:‏ مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله ‏{‏كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ورواه ابن جرير، عن المثنى، عن أبي حذيفة‏.‏ وعن محمد بن عمرو الباهلي، عن أبي عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به‏.‏

وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ فجعل ‏[‏الله‏]‏ منهم القردة والخنازير‏.‏ فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير‏.‏

وقال شيبان النحوي، عن قتادة‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ نودوا‏:‏ يا أهل القرية، ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون‏:‏ يا فلان، ألم ننهكم‏؟‏ فيقولون برؤوسهم، أي بلى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصة، حدثنا محمد بن مسلم -يعني الطائفي- عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال‏:‏ إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فُوَاقا ثم هلكوا‏.‏ ما كان للمسخ نسل‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول‏:‏ إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال‏:‏ ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل‏.‏ وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ ‏[‏الله‏]‏ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء‏.‏ ويحوله كما يشاء‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ قال‏:‏ يعني أذلة صاغرين‏.‏ وروي عن مجاهد، وقتادة والربيع، وأبي مالك، نحوه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة- فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به‏.‏ فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره‏.‏ وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها‏:‏ ‏"‏مدين‏"‏؛ فحرم الله عليهم في السبت الحيتان‏:‏ صيدها وأكلها‏.‏ وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا‏.‏ حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعًا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه‏.‏ حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي‏:‏ إني لم آخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله‏.‏ حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية‏:‏ والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل‏.‏ قال‏:‏ ففعلوا كما فعل، وصنعوا سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق‏.‏ فقالت طائفة منهم من أهل البقية‏:‏ ويحكم، اتقوا الله‏.‏ ونهوهم عما يصنعون‏.‏ فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ لسخطنا أعمالهم ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا الناس فلم يرونهم قال‏:‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ إن للناس لشأنًا‏!‏ فانظروا ما هو‏.‏ فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد‏.‏ قال‏:‏ يقول ابن عباس‏:‏ فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الجميع منهم، قال‏:‏ وهي القرية التي قال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا‏.‏

قال السدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ قال‏:‏ فهم أهل ‏"‏أيلة‏"‏، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت -وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئًا- لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقل البحر، فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ‏[‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏]‏‏.‏ فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة، ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه، فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره، حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم‏:‏ ويحكم‏!‏ إنما تصطادون يوم السبت، وهو لا يحل لكم، فقالوا‏:‏ إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه‏.‏ فقال العلماء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحكم الماء فدخل، قال‏:‏ وغلبوا أن ينتهوا‏.‏ فقال بعض الذين نهوهم لبعض‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ يقول‏:‏ لم تعظوهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏ فلما أبوا قال المسلمون‏:‏ والله لا نساكنكم في قرية واحدة‏.‏ فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا، ولعنهم داود، عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏166‏]‏ وذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 78‏]‏‏.‏ فهم القردة‏.‏

قلت‏:‏ والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد، رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًا بل الصحيح أنه معنوي صوري، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ الضمير في ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا‏}‏ عائد على القردة، وقيل‏:‏ على الحيتان، وقيل‏:‏ على العقوبة، وقيل‏:‏ على القرية؛ حكاها ابن جرير‏.‏

والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي‏:‏ فجعل الله هذه القرية، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم ‏{‏نَكَالا‏}‏ أي‏:‏ عاقبناهم عقوبة، فجعلناها‏.‏ عبرة، كما قال الله عن فرعون‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ أي من القرى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ الآية ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏، على أحد الأقوال، فالمراد‏:‏ لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير ‏{‏لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ من بحضرتها من الناس يومئذ‏.‏

وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة، وعطية العوفي‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْها ‏[‏وَمَا خَلْفَهَا‏]‏‏}‏ قال‏:‏ ما ‏[‏كان‏]‏ قبلها من الماضين في شأن السبت‏.‏

وقال أبو العالية والربيع وعطية‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم‏.‏ وكان هؤلاء يقولون‏:‏ المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان‏.‏

وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم‏؟‏ هذا لعل أحدًا من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ عقوبة لما خلا من ذنوبهم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم وروى عن عكرمة، ومجاهد، والسدي، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك‏.‏

وحكى القرطبي، عن ابن عباس والسدي، والفراء، وابن عطية ‏{‏لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ بين ذنوب القوم ‏{‏وَمَا خَلْفَهَا‏}‏ لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى فخر الدين ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المراد بما بين يديها وما خلفها‏:‏ من تقدمها من القرى، بما عندهم من العلم بخبرها، بالكتب المتقدمة ومن بعدها‏.‏

الثاني‏:‏ المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم‏.‏

والثالث‏:‏ أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، قال‏:‏ وهذا قول الحسن‏.‏ قلت‏:‏ وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها‏:‏ من بحضرتها من القرى التي يبلغهم خبرها، وما حل بها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏، وقال ‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 44‏]‏، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ الذين من بعدهم إلى يوم القيامة‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ بعدهم، فيتقون نقمة الله، ويحذرونها‏.‏

وقال السدي، وعطية العوفي‏:‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ قال‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي‏:‏ جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو ‏[‏عن أبي سلمة‏]‏ عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل‏"‏‏.‏

وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح‏.‏ والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ واذكروا -يا بني إسرائيل- نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم‏.‏ ‏[‏مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل‏:‏ تذبح، وقيل‏:‏ تنحر، والذبح أولى لنص القرآن ولقرب منحرها من مذبحها‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم خلافا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح، غير أن مالكا كره ذلك‏.‏ وقد يكره الإنسان ما لا يحرم، وقال أبو عبد الله‏:‏ أعلم أن نزول قصة البقرة على موسى، عليه السلام، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التوراة‏.‏

بسط القصة‏]‏ -كما قال ابن أبي حاتم-‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى‏:‏ علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم‏؟‏ فأتوا موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ قال‏:‏ فلو لم يعترضوا ‏[‏البقر‏]‏ لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال‏:‏ والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا‏:‏ من قتلك‏؟‏ فقال‏:‏ هذا، لابن أخيه‏.‏ ثم مال ميتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد‏.‏ ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم‏.‏

ورواه عبد بن حميد في تفسيره‏:‏ أنبأنا يزيد بن هارون، به‏.‏

ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر -هو الرازي- عن هشام بن حسان، به‏.‏ وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره‏:‏ أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى، عليه السلام، فقال له‏:‏ إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين ‏[‏لي‏]‏ من قتله غيرك يا نبي الله‏.‏ قال‏:‏ فنادى موسى في الناس، فقال‏:‏ أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا، ‏[‏قال‏]‏‏:‏ فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له‏:‏ أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله إليه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ فعجبوا من ذلك، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ‏}‏ يعني‏:‏ لا هرمة ‏{‏وَلا بِكْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ ولا صغيرة ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ نصف بين البكر والهرمة ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ أي‏:‏ صاف لونها ‏{‏تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ تعجب الناظرين ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ‏}‏ أي‏:‏ لم يذللها العمل ‏{‏تُثِيرُ الأرْضَ‏}‏ يعني‏:‏ وليست بذلول تثير الأرض ‏{‏وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ‏}‏ يقول‏:‏ ولا تعمل في الحرث ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ مسلمة من العيوب ‏{‏لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ يقول‏:‏ لا بياض فيها ‏{‏قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ قال‏:‏ ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏ لما هدوا إليها أبدًا‏.‏ فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن‏.‏ فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها‏.‏ فقال لهم موسى‏:‏ إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها‏.‏ ففعلوا، واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذ قاتله -وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه ‏[‏مقتله‏]‏ -فقتله الله على أسوأ عمله‏.‏

وقال محمد بن جرير‏:‏ حدثني ابن سعد حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه ‏[‏عن جده‏]‏ عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة‏:‏ وذلك أن شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا‏:‏ ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال لهم‏:‏ هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وَتُغْرِمُوا أهل المدينة التي لستم بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم ألا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها‏.‏ فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا‏:‏ عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا‏.‏ قال أهل المدينة‏:‏ نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا‏.‏ وإنهم عمدوا إلى موسى، عليه السلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ‏:‏ عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم‏.‏ وقال أهل المدينة‏:‏ نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا، وإنه جبريل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى، عليه السلام، فقال‏:‏ قل لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ فتضربوه ببعضها‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى، وقال‏:‏ والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته‏.‏ فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال‏:‏ يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني‏.‏ فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله‏.‏ فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده‏.‏ فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال‏:‏ قتلتم عمي، فأدوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينادي‏:‏ واعماه‏.‏ فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له‏:‏ يا رسول الله، ادع الله لنا حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحيي أن نعير به فذلك حين يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ فقال لهم موسى، عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏ قالوا‏:‏ نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول‏:‏ اذبحوا بقرة‏.‏ أتهزأ بنا‏!‏ ‏{‏قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا ‏[‏على‏]‏ موسى فشدد الله عليهم‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ والفارض‏:‏ الهرمة التي لا تلد، والبكر التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا‏.‏ والعوان‏:‏ النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها ‏{‏فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ نقي لونها ‏{‏تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏ قال‏:‏ تعجب الناظرين ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ من بياض ولا سواد ولا حمرة ‏{‏قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ‏}‏ فطلبوها فلم يقدروا عليها‏.‏ وكان رجل في بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل‏:‏ تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا‏؟‏ فقال له الفتى‏:‏ كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا‏.‏ فقال الآخر‏:‏ أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال‏:‏ والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا‏:‏ والله لا نتركك حتى نأخذها منك‏.‏ فانطلقوا به إلى موسى، عليه السلام، فقالوا‏:‏ يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى‏:‏ أعطهم بقرتك‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أنا أحق بمالي‏.‏ فقال‏:‏ صدقت‏.‏ وقال للقوم‏:‏ أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها‏.‏ قال‏:‏ اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه‏:‏ من قتلك‏؟‏ فقال لهم‏:‏ ابن أخي، قال‏:‏ أقْتُلُهُ، فآخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه‏.‏ فأخذوا الغلام فقتلوه‏.‏

وقال سنيد‏:‏ حدثنا حجاج، هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض- قالوا‏:‏ إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلا أدخلوه، وإذا افتتحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا‏.‏ قال‏:‏ وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه‏.‏ قال‏:‏ فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه‏:‏ هيهات‏!‏ قتلتموه ثم تردون الباب‏.‏ وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، وقال أهل المدينة‏:‏ يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنينا مدينة، كما رأيت، نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا‏.‏ فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً‏}‏‏.‏

وهذه السياقات ‏[‏كلها‏]‏ عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا نكذب فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم‏.‏